دائماً ما يستهويني موضوع الأمن البحري باعتباره أحد جوانب المنافسة بين القوى العظمى. فجميع الصراعات الكبرى تقريباً تنطوي على عنصر بحري، ومن المؤكد أن الانتصار العسكري على نطاق واسع يتضمن ويتطلب انتصاراً بحريّاً. ولنأخذ على سبيل المثال الحرب العالمية الثانية؛ حيث دارت المعركة الفاصلة عبر منطقة المحيط الهادئ، بدايةً من الهجوم على هاواي والاستيلاء على أوكيناوا؛ فثمة مصدران لدراسة جميع الأساطيل والقوات البحرية في ذلك الحين؛ وهما الحيز المحيطي بين هاتين الجزيرتين، والسيطرة على خطوط الاتصالات بينهما. وبشكل أعم، لا نحتاج إلى التوسع في الحديث عن الحملات البحرية التي قامت بها الإمبراطوريات الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية والهولندية (من بين الدول الأوروبية الأخرى) وتأثيرها على تأسيس هذه الإمبراطوريات كقوى عالمية في المقام الأول. أدت الهيمنة على البحار والمحيطات والخضوع لها دائماً دوراً رئيسياً في طموحات أي دولة في التحول إلى القوة العالمية. فتأثير البحار على الاقتصاد العالمي، من التجارة الدولية إلى تجارة الأغذية والموارد، لم يؤدِّ إلا إلى تأكيد أهمية هذا المجال في ذهني. بصفتي طالبة في مجال التاريخ، أكدت دلالة المجال البحري بالنسبة للقوى في الفترات الماضية من الصراع الإقليمي والعالمي الأهمية المتواصلة والمتزايدة للأمن البحري في التنافس والصراع، حتى في ظل الهياكل والأطر الأمنية المختلفة.
لقد اتضحت لي مسبقاً تأثيرات القوة البحرية، وممرات الاتصالات البحرية، وأوجه الترابط المشتركة بينها وبين الجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين من أجل فهم شؤون العالم والتنافس بين القوى العظمى. فالمخاوف المحيطة بالجزر الاصطناعية في بحر الصين الجنوبي أكثر من مجرد صراع إقليمي، وكانت في الواقع مؤشراً على الأمن البحري العالمي في القرن الحادي والعشرين، وقد أصبح واضحاً عندما كتبت وأجريت دراسة عن الأمن البحري. وكانت الظاهرة الرئيسية التي كانت مختلفة بالنسبة لي، أو بالأحرى جديدة، هي أن الأمن البحري في القرن الحادي والعشرين أصبح ركيزة مهمة في تعهدات السياسة الخارجية بطريقة لم يشهدها العالم منذ الحربين العالميتين.
يُعد هذا الكتاب نتاجاً لأبحاثي ومناقشاتي وكتاباتي حول الأمن البحري على مدار العقد الماضي. أردت أن أؤكد كيف كان الأمن البحري وكيف أصبح أحد الجوانب الرئيسية في تعهدات السياسة الخارجية. وكلما حاولت تضمين ذلك في بحثي، أدركت الفصل بين الأمن البحري والسياسة الخارجية. ومع ذلك، فإن التمحور نحو منطقة المحيطين الهادئ والهندي يُعد أحد التحولات الأكثر تحديداً في الحوار الجيوسياسي اليوم - وهو مسرح جديد للتنافس الجيوسياسي عبر المحيطات؛ لذا أصبح مثل هذا الحوار ضرورياً بشكل متزايد – بل في الواقع، كان علينا أن نركز على فهم ودراسة الأمن البحري وتداعياته على السياسة الخارجية منذ سنوات عديدة.
التنافس على المحيط الهندي وصناع نظام عالمي جديد
ترجمة : دينا المهدي