حرصنا في إعداد هذا الكتاب على تقديم المنهجيات الإحصائية المرتبطة بقياس الرأي العام، وإذا كان القياس يستند بطبيعته على علم الإحصاء إلا أن قياس الرأي العام هو مجال معرفي تتقاطع فيه فروع متعددة من العلوم، بما في ذلك العلوم السياسية والإعلام وعلم الاجتماع وعلم النفس؛ لذا فقد حرصنا على أن نستخدم في تناولنا للمنهجيات الإحصائية أسلوباً مبسطاً يبعد بقدر الإمكان عن التناول الرياضي المتقدم للأدوات الإحصائية، مع الإشارة إلى إحالات يمكن للقارئ المتخصص الرجوع إليها.
حاولنا في هذا الكتاب المزج بين المنهجيات المتصلة بقياس الرأي العام والاعتبارات العملية لإجراء استطلاعات الرأي العام. وتشير الخبرة العملية إلى أن بعض المواقف تجعل من الصعوبة بمكان تطبيق المنهجيات بحذافيرها، وكثيراً ما يتطلب الأمر إجراء مواءمات لا تتطابق بالضرورة مع المنهجيات الإحصائية المفترض تطبيقها في ظروف معملية قد لا تتحقق في الواقع العملي. ويتصل ذلك بشكل خاص بالافتراضات المطلوب توافرها للوصول إلى تقديرات غير متحيزة لمعلمات المجتمع.   
وكما أن لكل فرع من فروع المعرفة منهجيات فإن له أخلاقيات، وقد حرصنا في هذا الكتاب على إلقاء الضوء على الاعتبارات الأخلاقية التي يجب التمسك بتطبيقها عند إجراء استطلاعات الرأي العام. والالتزام بهذه الأخلاقيات يصطدم في كثير من الأحيان بالبيئة السياسية الحاضنة ونظرتها التي يغلب عليها عدم الارتياح لعملية قياس الرأي العام برمتها تحسباً لنتائج غير مواتية تكشف مواطن خلل في برامج يجري تنفيذها، أو تشير إلى عدم رضا عن سياسات يتم تبنيها، أو تعكس تراجعاً في شعبية الرموز السياسية؛ وهو ما يشكل ضغوطاً ترى بعض الأنظمة السياسية أنها في غنى عنها.  
وقد انطلقنا في تناولنا لموضوعات الكتاب من تجربة عملية – كنا مسؤولين عن تأسيسها والعمل على استمرارها - وهي تجربة المركز المصري لبحوث الرأي العام "بصيرة"، وهو أول مركز مستقل لقياس الرأي العام في مصر تأسس عام 2012، وهي تجربة نظنها رائدة ومتفردة ليس فقط من حيث الالتزام بالقواعد المهنية والأخلاقية المتعلقة بصناعة قياس الرأي العام، ولكن أيضاً من حيث الإطار المؤسسي ونظام الحوكمة المطبق ومن حيث التواصل الجماهيري، والذي أسهم في إكساب المركز ثقة كان من الصعب اكتسابها في مرحلة صعبة يشهدها العالم. وقد أسهم مركز بصيرة في توفير بيانات عن الرأي العام في العديد من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية من خلال شراكاته مع العديد من المنظمات الدولية ومنها البنك الدولي ومنظمات الأمم المتحدة المختلفة والاتحاد الأوروبي. وقد توسع مجال عمل بصيرة ليشمل العديد من القضايا التنموية كالسكان والصحة والتعليم والتشغيل وقضايا اللاجئين والحوكمة والدعم والتكنولوجيا.
ولم يقتصر مجال عمل بصيرة على مصر فقط؛ بل امتد ليغطي الوطن العربي حيث أجرى مركز بصيرة العديد من الدراسات في دولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وسلطنة عُمان، والأردن، وتونس، والمغرب. ويأتي هذا الكتاب تتويجاً للتعاون مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة بدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث كان ترحيب مركز المستقبل بفكرة الكتاب دافعاً لخروجه إلى النور.  
ويتوجه هذا الكتاب إلى الأكاديميين المعنيين بدراسة الرأي العام، كما يتوجه للإعلاميين المعنيين بنشر وتحليل أبرز اتجاهات الرأي العام، وللسياسيين الحريصين على معرفة توجهات المواطنين، وللمواطن المهتم بالتعرف على تفضيلات مجتمعه.  
نرجو أن يسهم هذا الكتاب – ولو بنزر قليل - في إتاحة محتوى معرفي للمهتمين بدراسات الرأي العام، وفي بناء مزيد من القدرات في مجال قياس الرأي العام، وفي الارتقاء بالحوارات المجتمعية المعنية بالشأن العام بحيث تكون أكثر اعتماداً على القرائن والحقائق، وفي فهم أعمق لمدركات المواطنين لكل ما يتصل بالشأن العام وفهم التفاوتات في هذه المدركات فيما بين الشرائح الاجتماعية، وفي تبني سياسات عامة تسترشد بتفضيلات وأولويات المواطن.